نسعى في هذا المقال أن نثير إشكالاً يكتسي قلقاً مفاهيمياً ومعرفياً، من خلال البعد القيمي الذي ساد مؤخراً عن طبيعة الفرد المغربي وكيفية فهمه لطبيعة وجوده والآفاق التي ينسجها ارتباطاً بهذا المعطى.
ليس يسوغ أن نتحدث عن الفرد بمعزل عن مضمونه التاريخي والفلسفي والحقوقي الذي رسخته التجربة التاريخية للإنسانية برمتها مع استحضار التفاوت الحضاري بين الأمم في هذا المجال، إذ هو في المحصلة النهائية منتوج أسهم فيه النسق الحضاري الخاص وتأثر بسياقات عامة ألزمته بسمات صاغت جانبا من أنماط تفكيره ووجهت بعضا من مساراته المستقبلية، هذا المسعى تتفاوت بشأنه التصورات والأفكار ارتباطاً بالرؤية المؤسسة للفعل بين المرجعيات على اختلاف مشاربها ، فإذا كانت الصيغة المثلى للفرد مرفوضة من حيث الأساس الفلسفي بحكم استنادها إلى حسن النيات، فإن التجربة الإنسانية أبانت عن تضارب بين في الفهم والـتأويل لطبيعة الفرد الذي يبقى في النهاية حالة من بين حالات أخرى ممكنة ونسخة من بين نسخ متحققة لا تستنفذ الإمكانات ولا تحققها بالطابع المرجو الساعي إلى تكريس مجتمع حقوقي تنتصب فيه الحرية الفردية الداعمة للجماعة وليس النافية لها.
انطلاقاً من كل ذلك؛ ليس يسيراً أن يحصل الإجماع حول الفرد الذي نرومه مستقبلا، بل من النادر أن تتوحد الرؤى حول صيغة محددة له استنادا إلى التجارب التاريخية للأمم التي تتصدر فيها النزعة الليبرالية ناصية التعبير الراقي عن الحرية الفردية آخرها ثورة الحقوق التي أبانت عن فلسفة خاصة في تمثل الفرد وفي تدبير آفاقه، غير أن الذي يحز في النفس هو طبيعة التمثل المغربي للفرد الذي يبقى منيع المطلب، صعب المرام بعيد المتناول وعر الملتمس يطاله التقصير وتنتابه عوارض الفتور في العديد من المجالات ذات الصلة، ونقصد في هذا المقام الفرد السياسي والاجتماعي و الثقافي والعلمي، ولم لا الرياضي وكلها تجمع على خاصية القلق الوجودي الحاد.
قد لا يختلف الفرد من حيث الطبيعة والنوع في المجال الحضاري الإسلامي بالرغم من تباين المجالات الجغرافية والأنساق النفسية والاجتماعية، إذ إن المأساة تزيد من أكوام الحطب التي تحترق وتملأ الجو دخانا في أرض مبهمة مجهولة، لا نستطيع أن نستخرج من أعماقها معنى جديدا فالاستغراق في الذاتية و اللهث وراء المعنى من خلال اللامعنى ، والشطح وراء العفوية وغرائز اللذة العابرة، واستمراء سبل النجاح السريع و ادعاء المخاوف من المستقبل بالقلق والتوتر التوجس والاكتئاب وضياع اليقين، والعنف الجسدي الماثل في الملبس والمغالاة في تجريح الجسد والإمعان في تطويع الشكل لخدمة ثقافة الاقتداء و ليس الروح والرمز، مع ما يوازي ذلك من نغمة موسيقية مباشرة فيها سخط مرير يحمل الوهن المنوم والوهم الكاذب ليطير بين السحب، موسيقى صاخبة ودقات مسعورة تصم الآذان ترافقها أجساد متقلصة ومتلوية ومتشنجة، عوض أن تكون موسيقى توحي ولا تصرح تشير ولا تقرر لأن الفن العظيم لا يعلمنا و لكن يغيرنا، كل ذلك يجعل من هذا الفرد بالفعل مأساة إنسانية لا يعرف من الحياة إلا الحياة كما تقدمها الحياة كما قال الشاعر الكبير محمود درويش والتي غالبا ما تخفي يدها الحديدية في قفاز من حرير .
إن العلامات المميزة لهذا الفرد سياسيا تنبع من فلسفة العلاقة بين الشيخ والمريد التي تتأطر ضمن مقولات التبعية الهرمية القائمة على تلقي الإلهام المعصوم، تغذيها التمثلات التي تربط السياسة بالخبث والتمويه والحربائية وهو ما يفضي إلى غياب الإبداع والنضج السياسيين اللذان يصححان ذاتهما باستمرار ويغيب معه الأفق الحضاري الذي يمكن أن يميز هذا الفرد على المستوى الكوني، ارتباطا بذلك تغدو السياسة مرادفا طبيعيا لرد الفعل و مواجهة الأزمة أكثر من تقديم الحلول و الحرب الاستباقية الدالة على التبصر والقدرة على التحكم في صناعة المصير، لأنها تقوم على تنويم الخطاب بلغة ارتكاسية تنعي ذاتها باستمرار بمنطق التفوق الأخلاقي والسياسي وتقتات على الإفراط في الواقعية والرفل والرفس في اليومي الذي لا يتجاوز الأنف، بقدر ما يستعرض العضلات ويدغدغ العواطف، والأدهى تبرير خطاب المصالحة والإشعار عوض المبادرة والخلق بغية تكريس زعامة ثكلى وضحلة عمليا و نظريا و تفتقر إلى مفهوم "النضالية القيمية" وتتعالى عليها بمفهوم حرب الحركة بتعبير غرامشي لصالح البعد التقني المفضي إلى الإملاق القيمي .
أما اجتماعيا فلازال خطاب الإثارة الرقراقة لا يتوقف عن التدفق في دوامات إعادة إنتاج التنشئة الاجتماعية بتعبير بورديو الزاخرة بالإحباط والضياع، إذ ظلت القبيلة والعرق والتدين الذي يتخذ شعار الدين قوى فاعلة في توجيه مسارات التشكل الشخصي لمختلف مكونات المجتمع أضحت معه الحياة الاجتماعية غابة تتحلى بالمثل العليا البراقة في حين يزخر باطنها بمعالم التيه وضمور منظومة مغربية خاصة في التقويم والتوجيه ، وغدت الوطنية لباسا يرتدى في العيد تواكبه طقوس احتفالية معينة لعل أبرزها مباريات كرة القدم، في حين أن الإخلاص للوطن وقيم الوطن وجوهره ـ الإنساني طبعاً ـ لا تملك سخونة واقع الحال وحيويته بقدر ما تحتفل بروح النعاس الذي يسري ببطء وهدوء ويجعل من الثالوث الموجه ـ القبيلة والعرق والتدين ـ ديانات اجتماعية لا يستطيع الفرد أن ينتصب بمعاوله الفكرية والنقدية والتربوية لمواجهتها بقدر ما يقدم القرابين اليومية علها تجود عليه بمنصب سامي أو مرتبة عالية ولم لا موظف شبح أو إنعام ريعي.
ويختزل الجانب الثقافي والفكري في أنشطة عابرة تصرح بالموجود والإمكان عوض الوجود والصيرورة والمشاكسة ، وتتغنى بإبداع يقلد ويحاكي لا يستطيع معه أن يسهم في الذكاء الكوني أو في بناء صرح محلي بمقوماته الخاصة، فحتى البرامج المعرفية يتم التوسل فيها بالخبرة الأجنبية واستنساخ نماذج ممسوخة وإنزالها على منظومة قد لا تستجيب لها بالضرورة كمن يصوغ اللؤلؤة في خاتم من صفيح ، فهل استنفذت التربة المغربية قدرتها على الإنجاب وأصبحت أرضها يباب وبلقعا وغدا مخيالها وعقلها شيصا كل على مولاه؟
أما الأيقونات الثقافية فتصنع في سراديب الليل ودهاليزه، وتطل يومياً بخطاب ممجوج تسفوه الرياح، لأنه لا يقارع الأفكار الكبرى والقضايا النوعية ويركن إلى سفاسف الأمور كمن يخلق من بعرة الجمل فردوسا ومن ملقط شعر الحبيبة ثروة قومية كما قال الشاعر الكبير نزار قباني بشكل يقصينا حتى من فهم أنفسنا، ويجعل الإبداع بركة آسنة تتكاثر فيها الأشياء المألوفىة ولا تتجاوز رتابة الحياة و تكرارها و يغدو أكثر الناس يخبط خبط عشواء ويعمه في حندس طخياء كما قال الهمداني، فها هي كولومبيا تنكس أعلامها ثلاثة أيام حزناً واحتراما لأديبها الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، و في المقابل مذيعة تنعي وفاة الجابري والخطيبي وجسوس كمن ينعي حبة رمل تتطايرها الرياح و ترجو موتها في كل وقت وحين.
إننا في حاجة إلى طبيب شاعر وإلى قانوني انتربولوجي وإلى فقيه نفسي وإلى عسكري فيزيائي، وإلى امرأة فيلسوفة، وإلى مربي موسوعي إنسي وأنواري وكل شيء، عوض أن تكون لنا دولة أسطورية بتعبير كاسيرر تستقوي على الكل، و يبقى فيها الفرد كـ"صرصار" الأديب الروسي دستويفسكي الذي تتجسد فيه ملامح وأحاسيس مجردة لنفسية بطل يجتاحه الضياع والضيق والبؤس والوحدة والملل والأدهى اللاعنوان، فأزمة المغرب هي في المقام الأول أزمة إنسان بهوية معرفية.